الثبات على المبادئ و عدم التزحزح عنها من الوسائل اللازمة لاقتطاف ثمرة الفوز و النجاح.
و ما ظفر عامل بمرغوبه إلا بفضل الصبر و الثبات، وما خاب و أخفق في مسراه إلا بالملل و السأم و القلق، و الحجر المتقلب لا يثبت عليه البنيان.
لما أنهكت الحروب داهية المغوليين تيمور لنك دب في عروقه دبيب الملل فالتجأ إلى بيت خرب فرأى نملة وهي تحمل قوتها تتسلق جدارا فتسقط فتعود فتسقط وهو يتأمل ما يكابده ذلك المخلوق الضعيف و يجاهد في سبيل حياته إلى أن نجحت في مبتغاها بعد أربع و عشرين مرة، فأخذ منها عبرة الصبر و الثبات، فقال (إن النملة علمتني الثبات) فعند ذلك كر راجعا فنظم جيوشه وأعد عدته فاقتحم أهوال الحروب فانتصر انتصارا باهرا.
هذه نتيجة العزم والحزم والثبات، فإذا كانت نملة وهي أضعف خلق الله تثابر على عملها بحكم غريزتها وتحمل عشرة أضعاف حجمها عشرات المرات إلى أن تنال أمنيتها، فكيف بالإنسان العاقل القوي الذي كرمه الله وفضله وخلقه في أحسن تقويم؟
إذا كانت تلك تثبت ذلك الثبات لأجل حفظ وجودها بين أخواتها في هذه الحياة، فكيف لا يثبت الإنسان أضعاف أضعافها لأجل حفظ وجوده وكيانه في الحياتين حياة الدنيا وحياة الآخرة؟ و لنيل السعادتين فيهما معا؟.
إن الناس بالنسبة إلى الثبات على صنفين:
الأول ثابت كالطود لا تزعزعه العواصف ولا تضعضعه القواصف
إن اقتنع بمبدأ أو بعقيدة أو انحاز إلى حزب أو مذهب فإنه يعض عليه بالنواجذ ويثبت عليه ثبات الرواسي، ويتفانى فيه بكل ما أوتيه من قوة، مهما كلفه ذلك من الضحايا الغالية، ويتجلى ثباته في جميع أحواله فتراه ثابت الجنان ثابت اللسان، ثابت القدم، ثابت العمل، غير هلع و لا متلجلج ولا مضطرب، ولا مرتبك ولو أحدقت به الأخطار و الأهوال.
و قد يبلغ به الثبات أحيانا إلى الغلو والتطرف ولا يبالي في ذلك بما يلاقيه من قوارص اللوم والعتاب، ولا تثنيه عنه قوة المعارضة، ولا تؤثر فيه سعاية الوشاة وإفك الخراصين، بل لا يزداد نحو ذلك إلا تعصبا وتعلقا، وهذا دليل على كمال الصدق، والإخلاص، ومتانة الأخلاق، وهو محمود جدا مالم يخرج به إلى حد الجمود والثقة العمياء، والتعصب إلى الباطل.
و هذا الصنف هو نواة الإصلاح وعمدة المصلحين
الثاني: متزلزل العقيدة، سقيم الوجدان، متضعضع الفكر
يعتنق اليوم عقيدة وينسلخ منها غدا، يستحسن اليوم مبدأ ويستقبحه غدا، يدخل اليوم في مشروع و يخرج منه غدا، يصادق اليوم زيدا ويعاديه غدا إلخ.. كل هذا لا لسبب حادث وإنما لمرونة في نفسه و ضعف في قلبه فتراه مدة عمره مترددا متذبذبا لا مبدأ له ولا عقيدة ولا رأي ولا مذهب ولا دين و لا صديق و لا مشروعا قارا، وربما تحدثه نفسه أن يدخل في معامع الأعمال مع المصلحين و المفكرين و لكن سرعان ما يجد الطريقة وعرة العقبة كأداء و المفازة مترامية الأطراف، و الأرض مأسدة، فيستصعب مجاراة العاملين ومجاهدة تلك المصاعب، فيرجع القهقرى نادما على ما فرط منه من الدخول فيما هو خارج عن طوقه واستعداده، و قد لا يكتفي بذلك بل يملأ الجو صراخا و صخبا وإن ذلك السبيل الوعر غير نافذ لا ينتج نجاحا ولا فوزا، فيفت في ساعد العالمين أهل الحزم و الثبات، و يثبط عزيمتهم، ويفصل بينهم وبين منه يستهدون من الماعون والمساعدة، و هذه نهاية الخسة و الدناءة إذ لم يحرم الأمة منفعة ثباته و مثابرته فقط و لكنه لفرط تذبذبه و كسله يريد أن يبقى العاملون الثابتون كسالى مثله وحرمان الأمة من ثمرات ثباتهم.
و لعلاج هذا الداء و اكتساح هذا المرض من نفسه يلزمه أن يعلم علم اليقين أن تذبذبه و تردده لا يجلب له غير الإخفاق و الحرمان وأن الثبات وإن كان فيه من المشاق و المتاعب فإنه يلد الظفر و الفوز و النجاح، وأن يعتبر بعاقبة المتذبذبين و بمغبة ذوي النفوس الصادقة وبما نالوا من العزة القعساء والانتصارات العظيمة في ميادين الحياة بفضل عزيمة الصبر و خالص الثبات.
-منقول-